إغلاق الحكومة الأمريكية يضاعف المعاناة.. ملايين الأسر تواجه خطر الجوع

إغلاق الحكومة الأمريكية يضاعف المعاناة.. ملايين الأسر تواجه خطر الجوع
مواطنون أمريكيون أمام أحد بنوك الطعام

تجمعت طوابير طويلة أمام بنوك الطعام في عدد من الولايات الأمريكية السبت، في مشهد إنساني مؤلم يعكس آثار توقف المساعدات الشهرية لبرنامج الدعم الغذائي الفيدرالي SNAP، مع دخول الإغلاق الحكومي الأمريكي يومه الثالث والثلاثين، فقد أدى تجميد المدفوعات فجأة إلى شلل في أحد أهم برامج الحماية الاجتماعية في البلاد الذي يعتمد عليه أكثر من 42 مليون مواطن لتأمين غذائهم اليومي.

في حي برونكس بنيويورك، تجاوز عدد المتوافدين إلى بنك الطعام التابع لكنيسة "عالم الحياة" 200 شخص إضافي عن المعتاد، بحسب ما نقلت وكالة "أسوشيتد برس"، واصطف المحتاجون في طوابير امتدت عبر عدة شوارع، يرتدون معاطف سميكة ويجرّون عربات تسوق فارغة على أمل ملئها بقدر من الفواكه والخضروات والخبز والحليب والوجبات الجاهزة.

شهادات من الميدان

وسط الزحام، كانت ماري مارتن، متطوعة في بنك الطعام وأمّاً لأسرة كبيرة، تحمل بيديها صندوقاً من المواد الغذائية وتقول إن هذا المكان أصبح شريان حياتها بعد توقف مدفوعات الدعم، وتتلقى ماري عادة نحو 200 دولار شهرياً من برنامج SNAP، كانت تقسمها بينها وبين ابنيها، أحدهما يعيل ستة أطفال. وتضيف بصوت يحمل مزيجاً من القلق والامتنان: "لو لم يكن بنك الطعام هذا هنا، لا أعلم كيف كنا سنعيش".

قصة ماري تتكرر في مدن كثيرة من الساحل الشرقي إلى الجنوب الأمريكي، حيث يتقاطر الآلاف على مراكز توزيع الطعام في ظل غياب اليقين بشأن موعد إعادة صرف المساعدات المجمدة وسط مخاوف من انتشار الجوع.

القضاء يتدخل لإنقاذ المستفيدين مؤقتاً

في تطور قضائي مهم، أمر قاضيان فيدراليان الإدارة الأمريكية بإعادة صرف المدفوعات بعد توقفها المؤقت، ما أوقف جزئياً حالة الذعر بين المستفيدين، لكنه لم ينهها، فقد أوضح القاضي جون ج. ماكونيل من رود آيلاند أن الحكومة ملزمة بتوضيح آلية تمويل البرنامج بحلول الاثنين، وأن عليها دفع المبالغ المستحقة بالكامل أو تحديد طريقة استخدام صندوق الطوارئ البالغ ثلاثة مليارات دولار بحلول الأربعاء.

ويأتي القرار بعد جدل سياسي محتدم حول أولويات الإنفاق خلال الإغلاق الحكومي، إذ أكد الرئيس دونالد ترامب أن الأموال متوفرة لكن صرفها يتطلب "توجيهاً قانونياً واضحاً"، ما أثار تساؤلات حول مسؤولية السلطة التنفيذية عن حماية الفئات الضعيفة خلال الأزمة المالية الراهنة.

بنوك الطعام ترفع الطاقة القصوى

في ولايات عدة، تجاوز الضغط على بنوك الطعام طاقتها التشغيلية. وفي أوستل بولاية جورجيا، اصطفت مئات السيارات في طوابير تمتد مئات الأمتار للحصول على أكياس من المواد الغذائية، وقالت منظمة Must Ministries"" إنها وزعت الطعام على نحو ألف شخص في يوم واحد، أي أكثر من ضعف المعدل المعتاد.

وفي لويفيل بولاية كنتاكي، امتلأت قاعات كنيسة "كالفاري المعمدانية" بالمستفيدين من البرنامج الذين فقدوا مصدر دعمهم الرئيسي، قال جيمس جاكسون، البالغ من العمر 74 عاماً، إن "الناس يعانون من قرارات تتخذ في واشنطن دون أن يشعر أحد بمعاناتهم اليومية"، داعياً إلى أن "يتعلم صانعو القرار معنى الفقر قبل إصدار القرارات التي تمس حياة الملايين".

وفي ولاية كونيتيكت، عمل عشرة متطوعين إضافيين في مطبخ ومصرف الطعام التابع لـ"سانت فنسنت دي بول" لاستيعاب الأعداد المتزايدة، وقدمت المؤسسة إلى جانب الطعام مواد تنظيف وفحوصاً طبية مجانية للمستفيدين، في محاولة للحفاظ على كرامة المحتاجين وسط الأزمة.

بنك الطعام ليس للفقراء فقط

يقول القس جون أودو-أوكون الذي يدير بنك الطعام في برونكس، إن الأزمة الحالية غيّرت طبيعة المستفيدين من هذه المراكز، فبعد أن كانت تقتصر في الغالب على العائلات الفقيرة والمسنين، باتت تشمل الآن فئات متوسطة الدخل وأسراً عاملة فقدت القدرة على تغطية نفقاتها، ويضيف: “الآن البنك أصبح للجميع، ترى أشخاصاً يأتون بسياراتهم الخاصة، يصطفون في الطوابير مثل سائر الناس، إنها لحظة تكشف هشاشتنا المشتركة”.

هشاشة النظام الغذائي في أكبر اقتصاد عالمي

برنامج SNAP يعد ركيزة أساسية في شبكة الأمان الاجتماعي الأمريكية، حيث يوفر تحويلات مالية شهرية لملايين الأفراد ذوي الدخل المنخفض عبر بطاقات خصم إلكترونية تستخدم لشراء المواد الغذائية، وتبلغ ميزانيته السنوية أكثر من 120 مليار دولار، لكن توقف المدفوعات خلال الإغلاق الحكومي الأخير كشف مدى هشاشة النظام في مواجهة الاضطرابات السياسية والإدارية.

وفق بيانات وزارة الزراعة الأمريكية، يعتمد أكثر من 42 مليون شخص على هذا البرنامج، منهم نحو 12 مليون طفل، و8 ملايين من كبار السن وذوي الإعاقة، ويعيش أكثر من 10 في المئة من الأسر الأمريكية في حالة "انعدام أمن غذائي"، أي إنها لا تملك ما يكفي من الطعام طوال الشهر.

تقول الخبيرة الاقتصادية نانسي غرين، المتخصصة في السياسات الاجتماعية، إن تعليق مدفوعات SNAP "قد يؤدي إلى مضاعفة الفقر الغذائي خلال أسابيع قليلة"، مضيفة أن "كل يوم من التأخير ينعكس مباشرة على مائدة ملايين الأسر".

تداعيات سياسية واقتصادية

توقف برنامج SNAP يأتي ضمن سلسلة من الأزمات الناتجة عن الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، والذي شلّ العديد من المؤسسات الفيدرالية. ويُخشى أن يؤدي استمرار الأزمة إلى خسائر اقتصادية تتجاوز 10 مليارات دولار أسبوعياً، فضلاً عن تآكل الثقة في قدرة النظام السياسي الأميركي على حماية الفئات الأكثر هشاشة.

وفي الوقت الذي تتبادل فيه الإدارة والكونغرس الاتهامات حول المسؤولية، تتفاقم المعاناة في الشوارع. فقد وثقت وسائل الإعلام المحلية صوراً لعائلات تنتظر منذ الفجر أمام بنوك الطعام، وأخرى تنام في سياراتها لتحتفظ بمكان في الطوابير التي تمتد لعدة كتل سكنية.

البعد الإنساني للأزمة

المشهد الإنساني الطاغي على المدن الأمريكية في الأيام الأخيرة يتجاوز الأرقام والإجراءات، فالأزمة أعادت إلى الواجهة نقاشاً قديماً حول العدالة الاجتماعية في أكبر اقتصاد في العالم. الولايات المتحدة التي تمتلك أكبر ناتج محلي إجمالي عالمياً، تشهد اليوم طوابير للجوعى تمتد أمام الكنائس والمراكز الخيرية.

تقول المتطوعة ديبرا هال في لويفيل: “لم أرَ شيئاً كهذا منذ الأزمة المالية عام 2008. الناس خائفون، ليس من فقدان المال فحسب، بل من فقدان الكرامة”.

وفي تصريحات مماثلة، دعا عدد من رجال الدين والمنظمات الحقوقية إلى إعلان حالة طوارئ إنسانية لدعم بنوك الطعام، وتحريك المخزون الوطني من المساعدات الغذائية لتغطية العجز المؤقت إلى حين عودة التمويل الفيدرالي.

يعد برنامج (SNAP) أكبر برنامج للمساعدات الغذائية في الولايات المتحدة، أنشئ في صورته الحديثة عام 1964 بوصفه جزءاً من "قانون الأغذية والتغذية"، ويُدار من قبل وزارة الزراعة الأمريكية، يهدف إلى مكافحة الفقر الغذائي وضمان حصول الأسر محدودة الدخل على تغذية كافية، عبر بطاقات إلكترونية تستخدم لشراء الطعام من المتاجر.

خلال السنوات الأخيرة، زادت أهمية البرنامج مع ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع الأجور الحقيقية. وأظهرت تقارير مكتب الإحصاء الأمريكي أن برامج المساعدات، وعلى رأسها SNAP، أسهمت في خفض معدل الفقر بنحو 8 في المئة عام 2022.

لكن الإغلاق الحكومي المتكرر والجدل السياسي حول الميزانية جعلا استمرارية البرنامج محل تهديد متكرر، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى استقرار النظام الاجتماعي الأمريكي في مواجهة الأزمات.

أزمة توقف المساعدات الغذائية في الولايات المتحدة لا تمثل خللاً إدارياً عابراً، بل مرآة تعكس هشاشة منظومة الحماية الاجتماعية في بلد يُنظر إليه بوصفه رمز الثراء والوفرة، فالطوابير الطويلة أمام بنوك الطعام في برونكس وجورجيا وكنتاكي ليست مجرد مشاهد آنية، بل رسائل إنسانية تذكّر بأن الفقر والجوع يمكن أن يتسللا حتى إلى قلب أقوى الاقتصادات.

وبينما ينتظر الملايين إعادة تعبئة بطاقاتهم الغذائية، تبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة النظام السياسي الأمريكي على تحقيق توازن بين النزاعات الحزبية والواجب الإنساني تجاه مواطنيه الأكثر ضعفاً.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية